
أن أهم ما يميز الطقس ، انه يستند على موروث شعبي ثر ، يحتاج إلى عقل تنظيري يبتكر الآليات التي على ضوءها يتم استلهام هذا الإرث ووضعه في قوالب نصية مسرحية ، تثير الدهشة وتنظم البناء التواصلي ، وتثبت روح الحراك فيه فتحوله من ( الطقس ) إلى ( الدراما ) .. ونص ( أكفان ومغازل ) لكاتبه عمار نعمة جابر حاول أن يجترح أسلوباً نصياً مغايراً عن البناء التقليدي للنصوص المسرحية ، يتقاطع مع السائد جمالياً ولكنه لا يبتعد كل البعد عن ما هو متمظهر من نصوص تجريبية تبتكر وتختلف وتؤسس .. ولعل المفارقة هنا أن تسليط قراءاتك النقدية غير المنهجية بآليات التقاطع التي أسس النص على ضوءها ، فالنص في بناه يعتمد على خصوصية الحوار وارتباطه بالخطاب الموجه ، كما أن زماكنيته مفتوحة ، وان ثمة تحديد لفظي إلا أنه غير محاط بحواجز مضمونية محددة كما في شخصياته علامات قابلة للتحول الدلالي ضمن ثنائياته المفترضة في التزامن والتعاقب ، الدال والمدلول والتي شكلت بمجملها النسق البنائي للنص ، الذي حاول أن يستحضر إحدى الحكايات الشعبية الجنوبية مرمزاً للأم العراقية التي تنسج أكفان أبناءها . وهي تنتظر أمام ( باب الرحمة ) المفترض كل أربعين عاماً ، متوسطة بين مستويين ، الأول : علوي ملكوتي مقدس يمتلك خاصيته المعروفة مرجعياً ، والثاني سفلي شهواني شيطاني مستبد يمتلك خصوصية يتقاطع مع مستوى ألام والمستوى العلوي .. والأم هنا بوصفها برزخ بين حدين ، حاول الكاتب من خلالها أن يشاكس المتلقي عبر تشظي بناءها في سياق النص حينما حدد أسماء أبناءها وهم ( عباس وعون وعبد الله وجعفر ) ، وهي إشارة تاريخية لتحريك الزمن ، وخلق علاقة تعاقدية بين الحدث التاريخي والحدث المعاصر ، محاولاً استحضار التأريخ ( كمرجع ) ، بينما يتم تسليط الضوء على زمن اللحظة الراهنة ، بعد أن يضع المتلقي في أتون ذلك الترابط بين المستحضر وبين المتمثل ، بالإضافة إلى أن الكاتب أوجد وشائج تلازمية ، وفتح خطوط العلاقة ضمن خارطة النص ، التي أدت بالنتيجة أن تضع المتلقي في غياهب الوجد ، عبر الانتقالات التي شهدتها المشاهد ، والتي كانت تقسّم الألم مبتدئة من الجذر الأول ، وكأنما تقرأه أركيولوجياً حتى اللحظة الراهنة ، فتضاريس الألم العراقي شائكة ، ومظلومية أبناء الوطن باتت تشكل أمثولة في المأساة الإنسانية ، لذلك أعتقد أن الكاتب استطاع عبر هذا النعت أن يصور المأساة ويصوغها بعيدا عن انتمائها الأيدلوجي والديني ، كما انه حاول أن يبحث في جسد المأساة عن ما هو كوني عبر استحضار المشترك الذي يخلق التعاقد مع الآخر ضمن نظام شفروي داخل المدونة النصية ، والذي كانت رموزه شاخصة نذكر منها ( ألام ، الحفارون ، مجموعة البيض ، باب الرحمة ، ثوب وإصبع وعمامة ، سلّم الكمال ، العالم العلوي ، العالم السفلي ، العالم الدنيوي ، الأسماء التاريخية ، المغزل ) شكلت تلك الرموز وغيرها ، ذلك النظام الذي حاول أن يجعل المتلقي متوحداً مع هذه المبثوثات ، باعتماده على لغة الخطاب السردي ، ومحاولة وضع الصراع بين الذوات التي تتحرك ضمن أنساق النص دون أن يكون ثمة إعلان مباشر وصريح ، كما هو سائد في نصوص المؤسسة على التركيبة التقليدية . عرضت المسرحية على هامش مهرجان المسرح الطلابي الثاني الذي أقامته مديرية تربية ذي قار / قسم النشاط المدرسي بتاريخ / / 2006 على قاعة النشاط المدرسي ، وكانت من إخراج ثائر خضير وتمثيل ( عبد الرزاق سكر ، علي بصيص ، فاطمة الوادي ، عمار سيف ، حيدر عبد الرحيم ، ستار عبد الواحد ) ومجموعة من طلبة إعدادية الجمهورية للبنين .
بحثت الرؤية الإخراجية في شبكة النص بمستويات محددة ، ودونما الغور إلى القاع ، إذ استطاعت في ظل هذا الوصف أن تتحسس هذه العوالم الثلاث ووضعها ضمن جغرافية المسرح ، فكان على يمين المسرح العالم العلوي وعلى يساره العالم السفلي في حين كان الوسط يمثل العالم الدنيوي ، وثمة خيوط مشكلة بدءا من عمق المسرح باتجاه المقدمة ، بشكل يثير الرهبة والخشوع حيث وضعت السينوغرافيا في إنشائية واعية من قبل مصممها كريم عبد جابر ، رغم التحديد المناطقي للعوالم ، الذي قوض حركة الممثلين من جهة ، وجعل الصراع يتحرك بصورة أفقية من جهة أخرى ، خصوصا وان اللغة التي اعتمدت كانت سردية بحاجة إلى فعل مشهدي حتى نحصل إيقاع حيوي متجدد في مساحات العرض التأويلية ، إلا أن ذلك لم يمنع من محاولة الرؤية في تحريك الدوال العرض ، ومحاولة توليد وتناسل علامات كان لها الأثر في استنطاق روح التواصل مع الآخر ( المتلقي ) ، إذ تحولت القطع الخشبية التي كانت من لوازم مجموعة البيض إلى ( توابيت ، مآذن ، حواجز ، ستائر ، رموز صوتية ، شخصيات تاريخية وغيرها ) كذلك الجسر الذي كانت تسير عليه ألام الممتد من العمق باتجاه أسفل وسط المسرح كان عبارة عن سلم أو طريق للنجاة أو حدا فاصلا أو ما شابه ذلك ، وعلى يسار المسرح كان ثمة ارتفاع تحول إلى ( أشلاء ، مقبرة ، قبو ، ملاذ لجنود الظلمة ) أضف إلى ذلك المغزل الذي كان بيد ألام فقد تحول بالإضافة إلى كونه مغزل ( إلى رضيع ، شماغ ، عصى وغير ذلك ..) إذن هذا التحول ألعلاماتي في مجمل دوال العرض ، كان باعتقادي أهم ما يميز الرؤية الإخراجية ، وان كان ثمة مواطن خلل ، كنا نتمنى اجتيازها على مستوى المنظومة الأدائية التي كانت مرتبكة بسبب نقص حفظ الدور بالنسبة لبعض الممثلين ، وعدم فهم طبيعية الشخصيات التي يؤديها الممثل وعدم الاكتراث ، فكان أن أوقع أغلب الممثلين في تمثيل شخصياتهم بدلا من شخصيات النص ، باستثناء البعض ولا سيما الممثل ( علي بصيص ) الذي استطاع أن يتوحد مع ذات الشخصية ، وان يبلغ مراحل الصدق في الأداء فبكى وأبكى الجمهور معه .. واعتقد بخبرته الطويلة كان عارفاً بهذه اللحظة وأهميتها .. أما الإضاءة فقد انشغلت بخلق الجو العام للمشاهد على قدر المستطاع كونها بدائية لم تستطع الفصل في جغرافية المكان وهذا من أهم الأخطاء التي تواجه العرض المسرحي في قاعات العرض غير الجيدة ، خصوصا في مسرح المحافظات . في حين كانت الموسيقى مؤسسة على أساس طبيعة المشاهد ، فقد استخدمت الموسيقى العالمية للمشاهد الإنسانية التي لها علاقة بالآخر ، في حين استخدمت الموسيقى المحلية للمشاهد التي تكشف البيئة المحلية ، وخصوصاً استخدام الناي الذي كان له وقع كبير في فعالية التلقي .
أخيرا كان العرض يرسم صورة الألم العراقي وسعته كان بحجم تلك المأساة التي ما زالت إلى الآن محض جدل .. ونزيفها في كل شبر من ارض الوطن ، نتمنى أن ينتهي هذا النزيف بأسرع وقت ممكن .