(قاع ) …. عرض شبابي استثنائي يعكس صراع الأيديولوجيات في زمن العولمة – د.نادر القنه

في نصه المسرحي ((قاع)) يتبنى الكاتب المسرحي العراقي عمار نعمة جابر منهجا غيريا في تكنيك الكتابة (الدرامية) متجاوزا في ذلك الكثير مما هو سائد ومألوف في الحركة الأدبية العربية..

حتى وإن ظهرت في النص بعض ملامح البينة الكلاسيكية على مستوى التركيبة الحكائية ومستوى تصنيفه وافرازه للشخصيات الدراماتيكية.. ومستوى علاقة الإنسان بالمكان. والمكانية هنا، لا نعني بها الخاصية الجغرافية فقط.. بل الفضاء المعرفي الذين يتصدون لهذه التجربة النصية.

ففي تقديراتي الشخصية أن الرؤية النصية للكاتب، والتي هي محكومة في الأصل إلى رؤية فلسفية خالصة لموضوع (الزمكانية) الثنائية المؤسسة على التقابل والتناقض تتيح قدرا كبيرا للمخرج أن يؤسس منطلقاته الإخراجية ورؤاه الفلسفية تبعا لثقافته ، وإمكاناته، وإشكالياته، وأزماته وآرائه ومفهومه للعلاقة الجدلية بين الزمكان والمكان، وكذلك تبعا لقدرته الموضوعية على تفكيك الواقع العادي وبناء واقع افتراضي جديد، يقوم على المغايرة والتخيل، تمتد صورته وكينونته حتى يصل في مداه إلى فضاء اليوتوبيا.

 الفكرة..والمعالجة…والقضيةØ

في قاع سفينة تسبح في عرض البحر، لا ندري وجهتها وجغرافيتها إلى أين؟ فالزمان الكلي هنا مغيب، والمكان الكلي هنا أيضا مغيب حتى وإن كشف المؤلف والمخرج عن طبيعة المكان الجزئي (وهو قاع السفينة)، فالقاع هنا محمل بسيميائية المكانية الملعنة، حيث يشير إلى طبيعة الصراع الدرماتيكي في النص بين الشخوص الدرامية…بين شريحة (مقنعة) وراضية بواقعها أن تضل في القاع تسبح في فضاء مجهول، وشريحة اخرى حالمة تشدها الرغبة في الحياة للصعود الى (أعلى)، وترك هذا القاع السوداوي رغبة في مواجهة تحديات جديدة من أجل حياة افضل، وانسانية ناضجة 
متكاملة لها معانيها الخاصة، ولها تجلياتها.

إذن الصراع بين عالمين: سفلي/قاعي مرئي بكل وحشيتة وانزوائه، وأمراضه، وعنفه، وتخليه، وضيق أفقه، وذاتيته ومحدوديته… وعلوي/غير مرئي، وغير ملموس ماديا، ولكنه متخيل على الواقع الافتراضي… تقوده شخصيات أربع، تعيش وضعا تراجيديا داخل قاع السفينة حيث أصيبت (بالجرب) ولهذا ايضا دلالاته، نظرا لمكوثها فترة طويلة في هذا المكان وهذا الزمان من غير تبديل أو تغيير، أو تطوير.

شخوص أربعة لا يربط بينها رابط غير المكان والزمان والاشكالية الأمر الذي يوحي أننا أمام شخصيات غير تقليدية وغير نمطية، فالأول وهو (قاص) يتعاطى الثقافة والأدب ولديه قدرة على قراءة الواقع بشكل منطقي/عقلاني.. والثاني (القس) رجل دين مستسلم لمعتقداته الميتافيزيقية ولنصوصه القواعدية والثالث شخصية (سلفية) النزعة والتكوين يعيش على شعارات ومقولات (جده) من السلفية التاريخية، مؤمنا بالثوابت التاريخية، والشعارات المتوارثة التي تحيل الإنسان الى قطعة (ثابتة) في نسق البناء التاريخي، والشخصية الرابعة (مادي النزعة) تحركه الرغبات البيولوجية، غير مؤمن الى حد بعيد بهرمية (ماسلو).

هذا الانتخاب الشرائحي في تكوين الشخصيات الدراماتيكية على مستوى الرؤية النصية والرؤية الإخراجية ثالثا إلى فضاء محدد من التجريد.. بحيث تبدو الشخصيات أمامنا مجرد أفكار، ومجرد إحالة الى اشارات ايدويولوجية معينة بعد أن يتم نزع الصفة الإنسانية عنها، فتبدوا أمامنا شخصيات من غير لحم أو دم… بل مجموعة من الأفكار والرؤى والتصورات تلتقي في زمكانية واحدة لتتصادم وتعري بعضها بعضا ولتفكك نفسها علانية امام الملتقى حتى يختار أو ينحاز المؤلف والمخرج في النهاية الى شخصية محددة أو فكرة معينة لتعكس وجهة نظره الخاصة في ماقدم، وفي 
ما طرح، وفي ما قال وأشار.. وهذه الشخصية أو تلك الفكرة هي التجسيد المطلق لشخصية المؤلف وشخصية المخرج.

إذن نحن أمام مسرحية محدداتها الصراعية لا تدور بين شخوص آدمية من لحم ودم وأعصاب، بل بين انساق فكرية متباينة غير متجانسة بين (العقلانية، والسلفية، والدينية، والمادية) والسؤال القائم في العرض المسرحي: كيف الخلاص من هذا الواقع؟ ومارؤية كل شريحة فكرية لطبيعة الخلاص، ومعطيات الواقع، وسبل الانعقاق؟

وبالتالي: كيف ترى الايديولوجيات المتصارعة في عمق المجهول، موضوع المستقبل؟ 
وكيف يبدو لها المستقبل على مستوى الإحالة الشرطية لواقع مرئي في الذاكرة؟
صحيح أن هذا التصور في الطرح ليس جديدا في الدراما الغريبة والدراما العربية، حيث نجده يتلامس كثيرا مع  طروحات وشخوص (مكسيم جوركي) في الحضيض، ومع أفكار وتوحهات الكاتب النيجيري (وول شووفكا) في مسرحية الطريق، ومع فلسفة وأسئلة نعمان عاشور في مسرحية (الناس اللي تحت)، ومع ذات التوجهات والطروحات في أعمال أخرى مثل (رجال تحت الشمس) لغسان كنفاني، حيث تنحبس الشخصيات في خزائن ماء، وهكذا من أعمال أخرى متشابهة يفرض المكان (القاعي) سلطته على الفكرة الرئيسة في الدراما ليحولها الى صراع بين ايديولوجيات متعددة لتعكس واقعا بعينه قد يكون ذاتيا، أو موضوعيا، وقد يكون محليا أو إقليميا، أو قوميا، أو أنسانيا (مجرد من نزعته الاشارية) غير أن الجديد في هذه التجربة النصية والإخراجية أيضا، هو
 
موضوع المعالجة الفكرية للنص ، حيث حمله المؤلف والمخرج معا رؤية تقدمية قوامها: إن العالم الخارجي، وهو العالم القوي سيظل يضغط علينا بازدياد إن لم نتحرر من القاع الذي نسكن فيه، وهو ضغط يلازمه موت بطئ بالنسبة إلينا وضغط سيؤدي في النهاية الى اصابتنا بمزيد من (الجرب) أي مزيد من العزلة والانطواء والهامشية، فالباب مفتوح، ولكننا نراه بعقلياتنا مغلقا والباب يسمح لنا اليوم أن نهرب من القاع الى أعلى غير أنه في العد لن يسمح لنا بذلك.

وهنا يأتي السؤال: فهل ياتُرى نحن أمة جادة وراغبة بالحياة وساعية الى تجاوز واقعها المأساوي والانفتاح على العالم العلوي المتقدم؟ تحمل إجابة حتمية واحدة، قوامها: إننا باستثناء الترمزية العقلانية سنظل مشدودين الى العالم السفلي، الى القاع، الى المنفى، وحينها سيأكلنا الجرب، وسنموت في هذا القبو/ القبر المظلم ونحن نردد عبارات الذات، وهنا يحتمل النص رؤيته التقدمية، حينما يقدم إدانة مطلقة لكل الأفكار والايديولوجيات التي تدعو الى الانغلاقية والذاتية، ومنها: 
السلفية الشعاراتية، والدينية الميتافيزيقية، والمادية الذاتية. الرجل المثقف يكتشف أن الباب مفتوح وينطلق كالسهم الى الخارج تاركا وراءه الشخوص، تأكل بعضها بعضا.


 الرؤية الإخراجيةØ
في ليلة شبابة مسرحية تجلى الفنان علي العلي في تقديم رؤية إخراجية غنية بالمعروف والجمالية، وسطر من نص عمار نعمة جابر شكلا فرجويا يعتمد كثيرا على الرمزية المحمّلة بالدلالات الفكرية، التي من شأنها تعكس واقعنا الشرق الأوسطي المعاش بكل تفاصيله وتناحراته الأيديولوجيات كافة، التي تدعو الى الأنغلاقية، والانتصار للثورة الفكرية العقلانية التي ترى في أعمال العقل وتوظيفه سبيلا للخلاص من الموت داخل القاع، واستشراء وباء الجرب لا في أجسادنا بل في عقولنا، وبصيرتنا، وسواء على مستوى تكنيك الممثل، حيث اشتغل على تحرير ممثله من الأساليب الأدائية الواقعية، منتهجا اسلوبا تعبيريا قادرا على الغوص في مكنونات الذات، واطلاق (الأداة الجواني) الذي يحمل قدرا كبيرا من المصداقية، من غير استعراض لميزانسين بهلواني النزعة، أو التأطر في قالب من الألقاء الكلاسيكي المستهلك ساعده في ذلك فريق تمثيلي متجانس التكون، لديه القدرة على الاستجابة لملحوظات الأخراج وتعليماته الفنية، هذا الجهد الاشتغالي على تكنيك الممثل أدى في نهاية الأمر الى صناعة بطولة جماعية للعرض المسرحي، فلم يستفرد ممثل ما بخاصية هذه وذلك على قدر جهدها واجتهادها، وتوظيفها المتقن لأجهزتها الحركية
 
والعصبية والتنفسية، وجهازها الشعوري التأملي.

أما على مستوى المهمينات الجمالية للعرض المسرحي، فيمكننا القول: إن نجما سينوغرافيا ولد في رحم الحركة المسرحية الكويتية اسمه إبراهيم دشتي، وكذلك طاقة اخرى تبشر بالخير اسمها ميثم المويل، حيث صنعا مشهدية منظرية غنية بالدلالات، حتى وإن طغت على رؤيتها الصياغة الواقعية، فقاع السفينة كان باهتا، محشورا بالمخلفات المادية، فهو أقرب ما يكون الى الضياع والمنفى، والسجن والعزلة والذاتية، أكوام من الخشب وسلسة من الأنابيب الخاصة بالتكييف، وأنابيب الصرف الصحي، وبراميل لانعرف عنها شيئا وألواح خشبية. كل ذلك ثابت، إلا الإنسان 
برمزيته وفكره (وكأنه المعادلة الموضوعي لوجوده داخل المكان) وهو ما يحقق في الأصل طبيعة الرؤية الإخراجية والنصية.


الإضاءة الباهتة في القاع عكست دلالة الصراع القائم بين شريحة تسعى للتحرر (اللون الأزرق) حالمة في مستقبل أفضل وشريحة اخرى غارقة في ماديتها وذاتيتها وأفكارها ( اللون الأصفر) وهو صراع ثنائي التكوين، وأحادي الجانب أيضا. الأزياء شكلت غيابا ملحوظا فلم تقو على تقديم دلالات الحالة، والمكياج كان تائها بخطوطه ومستلزماته، والموسيقا كانت غنية في ايقاعاتها الكنيسية، والواقعية، والإقاع نجح في انضباطية هارمونية جميلة. باختصار إنه عرض شبابي
 
استثنائي يعكس صراع الأيديولوجيات في زمن العولمة.