الموتى .. الأحياء في ( قاع) – بيداء جبار الزيدي

تتحول الحياة الى سخرية وموت ، اذا فقد الانسان فيها انسانيته ، فحين يفقد مقومات الحياة ، ومستلزمات العيش التي يميز بها الحي عن غيره من الموجودات ، فهو لا يملك الا القدرة على الحركة فقط ، الا انه يبقى مهملا .. محجوزا .. متوحدا بحاجة الى توفر فرص الحياة ، الحياة التي لم يتبقى منها سوى القدرة على الشعور بالجوع ، ومحصورة ببقاء حاجته الى الغذاء والى العافية و….و…و ..

وقد وظف الكاتب عمار نعمة جابر الوظيفة الابلاغية ( إن صح التعبير ) في نقل وتسجيل مغزى انساني ،  بوساطة أحداث وشخصيات المسرحية . ففي ( قاع ) وهي نص منشور للكاتب ضمن مجموعته المسرحية  ( نادي .. للضحك ) والصادرة عن دار الشؤون الثقافية ببغداد عام2010. تصف المسرحية مجموعة من الشخصيات ، وهم على سفينة في عرض البحر ، لكنهم محتجزون في غرفة أسفل السفينة ( قاع السفينة ) ، حيث تصف المسرحية آلامهم وآمالهم ، وبعض آرائهم ..

تبدو الافكار بحجم الحاجات اليومية حيث يتأخر تزويدهم بالطعام ، فيركن بعضهم الى اليأس والقنوط ، ولكن يدافع احدهم عن فكرته في المقاومة ومجاهدة الحال حتى تتكشف أمامهم الحقائق بذروة من الصراعات وهنا تبدو الافكار اكبر واعظم من الحاجات اليومية .. انهم على سفينة تسير بلا وجهة معينة ، ولهم ان يخرجوا ويشقوا طريقهم بأنفسهم لمستقبل لعله سيكون أفضل…

يصف الكاتب موت هؤلاء الأحياء في حياة موصولة الأسى لا يعرف ليلها من نهارها “دنيا لا ليل فيها ولا نهار  ص7 “

حياة تتعكر عليهم ، بتعسر الحصول على مستلزماتها . حتى كأنها بحار لا قرار لها ولا حد لعمق مأساتها يقول : ” منذ سنين طويلة ونحن نسكن قفصا في وسط البحار المتلاطمة والتي ليس لها قرار ص32_33 ” مما يجعلهم يشعرون أنهم موتى لكن في قائمة الأحياء : ” في سفينة تسير في عرض البحار..لا يعرف احد منا اين تتجه ولا متى ترسو أنت مقذوف في سلة مهملات هذه السفينة أنت في القاع أنت في عداد الأموات بالنسبة لمن في الأعلى ص24_25″

تتكشف نوايا الوجود من خلالهم ، باحثين في مغزى الوجود ، ومتلمسين لسبل الحياة بابهى النوايا الناصعة : ” أموت غريبا لا يهم ..لكن المهم ان أموت انسانا ص10″

يعزز الكاتب فكرة ( موت الأحياء) بشواهد ، حيث يبين كيف يمتلك الانسان حاسة النطق ، الا انه في حقيقته من الموتى ، فقد حاجاته من مقومات العيش: ” الم يقتلك الى الان الجرب يا صديقي؟ البدين : كلا طبعا يا هذا فالموتى يفقدون النطق في العادة ص10 ”  فضلا عن الحاجة الى الغذاء الذي يحفظ استمرار حياة الانسان ودوام صحته وقوته : ” القاص : أتمنى ان تكون طويل العمر يا سيدي .. البدين : طويل العمر.. عمر بدون طعام لا حاجة لي به  ص12″

إن الحاجات في ( قاع ) حيثيات ترتبط بمجمل التكوين البشري ، تتنقل بين مستويات الحدث ، وسلطة الحوار ، كي تتحول نحو حاجات أخرى من الدعة وتوفير مستلزمات الراحة ، وكل الحاجات الانسانية الأخرى ، والتي تتكفل الشعوب بضمانها لمواطنيها : ” الفتاة : انه رجل طاعن في السن ويحتاج الى الراحة .. البدين : كلنا بحاجة الى الراحة ، وبحاجة الى الطعام ايضا .. القاص :.. نحن بحاجة الى أشياء كثيرة ص13 “

ان النص يدعو في دلالته الى المجاهدة والأمل والتفاؤل ، وعدم الاستسلام في قسوة من العيش ، وهذا ما ارسله ، وعمل عليه  الكاتب عمار نعمة جابر على ضوء ترميزه لفتح الباب والبحث عن مخرج في محاولات شخصية (القاص ) في المسرحية ، والحاحه على ضرورة ذلك : ” القاص :.. في فتح الباب علاجنا ص30 “

” القاص : فتح الباب هو ما نحتاج اليه صدقوني نفتح الباب كي نعرف النهاية ص33 “

لقد كان طرح مفهوم الانتظار ، وهو مفهوم عقائدي عام تختلف رؤيته باختلاف المذاهب ،  يمثل أمل في الاصلاح وسعادة عالم الشخصيات ، ومحورا وبؤرة تدور في حلقها مجمل الخط العام للحدث : ” القاص:(يحدث نفسه)الانتظار وجهتنا لكن انتظار ماذا؟انتظار الشفاء والشفاء لا يتحقق دون ان يفتح الباب ص30″  كما يتلون ذلك الأمل والمجاهدة بالصبر تارة : ” انه الصبر الجميل لانقضاء الايام المتبقية من العمر ص22 ” . وبالرضا بمشيئة الله تارة أخرى : ” لا اعتراض لا اعتراض ..انها المشيئة المقدسة.. الشكر هو كل ما نملك ص14 ”  .

وبذلك فقد نقل لنا الكاتب رسالة تمثلت في المحاولات المهزومة  لشخصيات المسرحية : ” الفتاة : الباب ..الباب حدق بآلامنا لسنين طويلة ففتح نفسه ص36 ” هزيمة القدر الذي سخر منهم فاتحا لهم الابواب التي ترددوا كثيرا في الاقتراب منها . وصوّر لنا تفاهة العظائم التي نرسمها حولنا دون مبرر ، لنكتشف في النهاية تلك التفاهات والوهن الذي كان يقيدنا في مسيرتنا المجهولة في هذه الدنيا .

لقد أثبت الكاتب ان الحلول تنطلق من البحث عن المخرج ، ولا تأتي عن تردد ، او رضوخ .. لقد كانت ( قاع ) دعوة بريئة للتأمل والحراك وهجران الخنوع والهزيمة .