مـلحــمة إنســانيــة قراءة في كتاب مسرحيات ( إنتباه ) -أحمد طه حاجو

 النصُ المسرحي هو الأساسُ الذي تُشيَد عليه كافة عناصر العرض المسرحي ، كما أنه النواة الاولى التي تنطلق منها كافة الافكار التي يقوم في بنائها المخرج المسرحي في حال أراد التحرر من سلطة الكاتب المسرحي وما عمل على بنائه في النص ..

كما أنّ الكاتب المسرحي هو الراصد الأول والملتقط  للفعل الواقعي وبلورته مسرحياً لينبثق عنه الفعل ُالدرامي المؤثر ، مقنعاً ومحرضاً للفعل مِنْ أجل التغيير المرجو منه .

     ولعل الكاتب المسرحي العراقي ( عمار نعمه جابر ) من الكتاب الذي تميَّز بأسلوبه الخاص وطريقته في التعاطي عن مفردات الواقع العراقي تحديداً ، إذ أنه يضع لنا في كتابه المسرحي الذي صدر مؤخراً والذي حمل عنوان ( انتباه ) ، ضَمَّ ( 20 ) نصاً مسرحياً ، أنطلق بها من الهَمِّ العراقي ، ليبرز خلالها كسفيرٍ للإنسانية ، من أجل أنْ يشير خلال معالجاته ، إلى الخلل الفعلي الذي رصده على أرض الواقع ! كما أنه أستخدم الرمز هنا وهناك ، ليكون من خلال هذا الاستخدام مستفزاً للقارئ أولاً ، وللمتفرج ثانياً ، في حالة العرض المسرحي ، لأنه وضع يده على قمة هرم المأساة العراقية ، وناقشها بطريقته الدرامية والفنية والجمالية ، لأنه إبن البيئة المستهدفة .

      إنّ النصوصَ العشرون التي وردت في هذا الكتاب كانت متنوعة في الطرح ، فقد ناقش المشكلة الإجتماعية وانعكاساتها على حياة الأسرة ، من خلال رصد حالات التفكك الأسري ، والمآسي التي تحصل للعائلة ، نتيجة الزيف المجتمعي المفروض ، ففي مسرحية ( شبزي ) التي تناقش إنتحار الأب بسبب العار التي جلبته له إبنته الكبرى ، من خلال كتابتها لقصيدة وردت فيها كلمة ( شبزي ) بحجة أنها كلمة تحمل بطياتها بعض المعاني الإيحائية … وعند التغلغل في هذا النص نرى أنّ الأبعاد النفسية المؤثرة على فعل الأب ، وايضاً تأثيراتها الى الأخت الصغرى ما هي الا نتائج ممنهجة  فرضها الجهل والتخلف المجتمعي على الافراد ، أي أن الأفعال على المسرح ما هي إلا أفعال مختصرة ومكثفة تعكس أفعال مجتمع كامل وبيئة واسعة ، وما معالجة ( عمار نعمه جابر ) لهذه الأفعال إلا ثورة على المسار الذي ينتهجه هذا الواقع .

      كما ان ( جابر ) وعبر نصوصه نلمس ان هناك لغةً مبطنةً مليئةً بالتشاؤم المفرط ، مما يعتبر هذا من أهم أدوات الإستفزاز ، من أجل دفع المتلقي في التحرك عبر تحريضه على إتمام الإصلاح للواقع على كافة المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية … الخ ، فالمبالغة في التشاؤم أستخدمها الكاتب ، من أجل الكشف عن الواقع المرِّير ، بكافة سلبياته دون رتوش ، لإن المجاملة في تناول المآسي لا تجدي نفعاً ولا تسمن من جوع في ظل واقعنا البائس . ونلمس هذا التشاؤم في عددٍ من النصوص وأبرزها مسرحية ( التالي ) حيث أن شخصية الجد الذي يعمل على صناعة تابوته ، وينتظر الموت ! من خلال تخريب غرفة نومٍ ترمز للحاضر والمستقبل وصناعة  البديل عنها : تابوته المرتقب ليحمله إلى مأواه الأخير ، الذي يتأمل منه إيجاد السعادة والخلاص من الواقع المزري الذي يعيشه ، وهنا نجدُ أنّ النصَ يعملُ على إستنطاق الضمير الإنساني ، ومخاطبة النفس البشرية ، بضرورةِ  أنْ تُعيد قراءة الواقع ، والكيفية التي تحكم مسيرة الحياة ، والوقوف على المسبب الرئيسي  لكل مأساة يعيشها الإنسان ، وهذه الطريقة في إستنطاق الوعي الجمعي ، تعتبر من الطرق المثالية ، في تحقيق التحريض ، كونهــا  نابعة من قراءة عميقة وواعية ، في تجسيد صلب المعاناة . 

      كما أنّ إشتغال ( عمار نعمه جابر ) على منطقة واسعة ، في تنشيط الخيال من خلال إستخدامه لحبكات ، قد تكون أقرب الى اللامعقول ، ونرى أنّ القصدية الواضحة في ذلك يرجع إلى الرغبة في ترسيخ والتأكيد على لغة الإثارة ، وتحقيق الغرض غير المألوف في التعاطي مع لغة العرض المسرحي ، فنراه يضع لنا بعض الأفكار في نصوصه ، مما تجعل  المخرج المسرحي ينطلق في عملية التجسيد ، دون قيود مكانية او زمانية ، وهذه الميزة في كتابات ( جابر ) تجعل من نصوصه ذات طابع واسع الإنتشار ، لأنها تخاطب الجانب الإنساني ، بالرغم من أنه موجه للبيئة العراقية ، إلا أنه يمكن تجسيده عربياً وعالمياً ، لأن العالم يتوحد في الجانب الإنساني ، فمثلاً مسرحية ( مرآة ) وهي : أنّ رجلاً يقف أمام المرآة ويخاطبها ، فتتحدث المرآة عن حقائق تُعَريهِ أمام نفسِه ، وتتناول الجوانب السايكولوجية في شخصية الفرد ، والإزدواجية التي يمارسها بعضٌ من الناس  أمام المجتمع ، في حين أنّ الحقيقة تكون حتماً مغايرة للصورة التي يظهر فيها ذلك الفرد أمام الآخرين ، كما أنها تتناول نقاط مثيرة: مثل أنّ لك شخصيتين أحداهما تظهر فيها الى الناس ، وهي على مقاسهم ، وتحاول أن ترضي المجتمع عبرها ، والثانية هي أنك خجولٌ مترددٌ خائفٌ وهي شخصيتك الحقيقية ، وهنا تظهر ، أنّ هذه الحوارية بين الإنسان وذاته تثير كثيراً من الإستفهامات  مثل : لماذا وصل الإنسان الى هذا المستوى من التفكير وعن  طريقة التعاطي مع الحياة عبر إرتداء الأقنعة ، فهل الزيف فُرضَ على الإنسان ؟!  وما هي مسبباته ؟ ..  تلك الأسئلة أثارها جابر بطريقة غير مباشرة عبر إستخدام المباشرة في طرح المشكلة ، وبالتالي فأنّهـــا ستستفز الباحثين عن الحقيقة و إيجاد الإجابات ، وبالتالي يتحقق الهدف من المسرحية .

      ونرى في مسرحية ( إنتباه ) جانباً كبيراً في العمل على تنشيط الخيال ، من خلال إستخدام الرمزية ، وإثارة التساؤلات التي تخص الواقع وأسباب فشله ، عبر حوارية بين رجلين في صالة إنتظار ، فيتبنى الرجل الثاني الدعوة الى كسر المألوف في التفكير والتحرر بالعقل من أجل الوصول الى حلول للتردي الحاصل في الحياة ، ويتبنى الرجل الأول الدور السلبي في التفكير الداعي الى التسليم بالواقع كما هو ، وتستمر عملية الإقناع ، وعند الوصول الى محاولة إقناع الرجل الاول ، يدخل رجلٌ ثالث  يُجسد شخصية الرقيب والتابو المفروض على التفكير ومحاولة حصره بحدود معينة ..

    أن هذا التابو يدعي على كسر جميع التابوات ، وعملية تجسيد المسرحية تدلل على تمجيد الحرية الفكرية ورفض الحدود ، لكن ظهور الشخص الثالث يحقق فعل صراع الأضداد عبر المجابهة لأي تفكير تحرري يدعو الى التطلع نحو عملية التصحيح .

      اللغة عند ( جابر ) هي لغة بسيطة وخفيفة على أذن القارئ والمتفرج ، فهو لم يستخدم المصطلحات المعقدة التي تجعل من نصوصه للنخبة فقط ، بل كانت مفردات قريبة من لغة بسيطة ، يوجه نصوصه للبسطاء ومعالجة همومهم ، كما أنه في نصوصه يحمل الهمّ الجمعي مما يتطلب منه إيصال الرسالة بأبسط الطرق واسرعها .

     الشخصيات لدى كاتبنا هي شخصيات واقعية ومثقلة بواقعيتها ، تفعل وتتحرك وفق المنطق الإنساني والفعلي على ارض الواقع ، لكن خصوصية ( جابر ) تكمن في التلاعب في مسيرة التحرك وزج نوعٍ من الخيال وغير المعقول في تحركها ، وهنا يحقق فعل التحريض عبر الإثارة من خلال الفعل غير المتوقع ، كما أنه يلجأ إلى المبالغة في بعض الأماكن من أجل المساهمة في تحقيق الهدف الأكبر للفكرة العامة للمسرحية ، إذ نجد هذا في نص مسرحية ( بلا كلام ) وتناوله موضوع التعصب الديني والطائفي وكيفية حلحلته من قبل المديرة ، كما  نجده في مسرحية ( نازل ) وكيفية إستخدام القطار ليكون معبراً عن الواقع العراقي في كافة إرهاصاته وإنتكاساته التي عصفت به عبر السنين .

     أنّ خصوصية ( عمار نعمه جابر ) تكمن في طريقة تناوله للمشكلة ، كما أنّ تناوله للأحداث اليومية يحقق فعلاً واخزاً  في  تحرك فكري على كافة المستويات (الإجتماعية والسياسية والإقتصادية والدينية …الخ) .

ففي مسرحية ( حفرة ) يكشف كاتبنا حجم الفساد السياسي والعسكري الذي يعاني منه الواقع ، فكل من الجندي والمسؤول يمارسان الكذب والزيف والضحك على الآخر ، وبالتالي الخاسر هو الإنسان البسيط ، فالمسؤول يصرح زوراً ، ويجني السحت الحرام ، جراء تصريحاته وإصدار أوامره الزائفة ، والجندي يطبق الأوامر مكرهاً ، وبعضهم قد لا يطبق كما فعل الجندي (2) في المسرحية ، ولو عكسنا هذا الفعل على الواقع سنجد الكارثة والمأساة ، لأن الموضوع يتعلق بأرواح الشعب  ، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا وهو أنّ الواقع الفاسد  الذي نراه على المستوى السياسي ، وفي المؤسسة العسكرية ، والمتعلق بحياة الشعوب : ألا يوجد من هو قادر على معالجته ؟ وإصلاحه ؟  سؤال قد لا يجد اذناً مُصغية ً ، كون اليأس ألبسنا مقدراته وربما  يكون  أداة تحريض من أجل التحرك لإنقاذنا ، وإنقاذ مستقبلنا الذي قد يكون مجهولاً ..

      كما إننا نجد في نص مسرحية ( سبايكر ) أنّ كاتبنا وضع يده على حجم المعاناة التي خلفها رحيل 1700 شاباً عراقياً في مجزرة ( سبايكر ) التي اقترفتها داعش في عام 2014 وكيف كان حال 1700 عائلة عراقية فقدت أبناءها ، ومأساتهم التي جسدها بصورة واقعية ممتزجة بالخيال ، عبر حمام ودوش وشاب يستحم ، ويستمع الى اصوات متعددة ، تجوب خياله ويستعرض من خلالها الكاتب ، صوت الأم والأخت ومعاناة الضحايا ، قبل لحظات من وقوع المجزرة ..

     أنّ هذا النص يوثق لمرحلة زمنية تاريخية ، ومأساة ستبقى ماثلة أمام أعين القراء والأجيال القادمة ، لما تحمله من تساؤلات كبيرة وكثيرة وخطيرة ..    الكاتب ( عمار نعمه جابر ) قدم لنا في هذه المجموعة المسرحية : ملحمة إنسانية تعاني من أشد الصراعات ، وعلى كافة المستويات ، فأشار  لنا عبر نصوصه ، عما  ينبغي أن تكون عليه  حياتنا بطريقة العكس ، أي أنّ عظمة فعل المأساة ، وهذا التعظيم قد يُحقق فعلاً مضاداً من ناحية الإشارة الى الأشياء ، أجاده ( جابر ) ونأمل ان يلتقط القارئ والمخرج المسرحي تلك الثيمات والعمل على إستثمارها في إصلاح الواقع ..