تقانة البناء الدرامي للنص المسرحي القصير-د.علي عبد الحسين الحمداني

      ان محاولة تحليل النص المسرحي ، تستند الى معطيات ، تقرر ملاحقة البراهين ، والادلة  والمضامين المضمرة ، التي ينطوي عليها ذلك النص ، بهدف اثراء ذائقة المتلقي / القارئ . وفسح مجالات التأويل والقراءة ، والتفسير . وبذلك يمتلك النص فعله الانجازي ، من خلال ايصال رسالته الفنية والجمالية المتحركة في ذهن المتلقي / القارئ .

   تضم المجموعات المسرحية للكاتب  ( عمار نعمه جابر) نصوصا مسرحية قصيرة ، وهي جنس ادبي يعرف ما يماثله في الادب بنوع القصة القصيرة ، او الاقصوصة ، وخصائصها المعروفة . لكنه لم يعرف في المسرح الا على نطاق ضيق ، وذلك لما تتطلبه الكتابة للمسرح من خصائص واشتراطات معينة توجب ان يكون النص مستوفيا لها ، فضلا عن الحاجة للعرض على خشبة المسرح .

     وقد جاءت هذه المجموعات بالنصوص المسرحية القصيرة ، لترفد المكتبة العربية بنوع مميز من الكتابة ، جدير بالدراسة والتأمل . اذ تنفتح النصوص المسرحية القصيرة على العالم ، من خلال تلاقح ذات المؤلف ، مع مضمرات النص الادائية ، المتمثلة بأصوات الشخصيات الدرامية المفترضة ، كونها تعبر بطريقة اخرى ، عن المعنى اللامرئي ، المتسرب بين سطور النص المسرحي ، بوصفة مدونة كتابية .  وان مهمة الباحث في دراسة هذه النصوص ، كمن يذرّ السنابل ليفصل القش عن الحنطة ، وانها – لعمري – مهمة ليست يسيرة . 

    ان البنية الدرامية لهذه النصوص القصيرة ، قد تبدو لأول وهلة ، انها بسيطة التركيب ، والبناء الدرامي ، وضعف الحبكة ، وقلة الشخصيات . لكن المؤلف ، وبقدرته على صياغة البناء الفني للنص ، انتشلها من هذه النظرة السريعة ، وجعلها تمور بمعان ودلالات ، لا تقف عند قراءة واحدة ، وانما تتعدد المعاني بتعدد القراءات ، وبذا ينفتح النص على ذهن القارئ ، ومديات مقارباته التأويلية .

  تشكلت البنية الدرامية للنصوص على مبنى متماسك بمحتوى النص اللغوي ، وتشابك محكم بالأفعال الكلامية ، فضلا عن الاجادة في حبك مفردات التركيب اللغوي . وبذلك انمازت بمعطيات فنية وجمالية ، اعطت المزيد من الرصانة لبناء المعطى النصي .

      جاءت العنوانات القصيرة ، للنصوص المسرحية ، محملة بطاقات تعبيرية ، وايحاءات دلالية كثيرة ، تحيل القارئ الى الاشتغال ، في منطقة التأويل والتفسير ، لتكوين عنوانه الخاص به ، قبل وبعد قراءة النص . وقد جاءت بعض العنوانات بصورة تبدو انها تمنح نفسها للقارئ ، وهذا ما لم يتوفر ، اذ سرعان ما يتبين المضمون النصي بغير ما اعتقده القارئ او استشفه من العنوان . فلكل من النصوص الاتية مغزاه المضمر في النص بعيدا عن دلالته المباشرة ( اتصال ، ناعور ، نافذة ، محنة ، كرسي ، عيد ميلاد ، راية بيضاء ، حلوى ، حارس ورئيس ، بقايا في قبو ، المارد ، شبكة ، مشنقة ، نازل ) وهذه النصوص التي تمثل في بعضها ، انشطار الفكرة الفلسفية عن ذات المؤلف ، وليس ما يتخيله ، او يتوقعه القارئ للعنوان .

    تشتغل الملاحظة اعلاه ، بوصفها تفاعل مفهومي ، يرتكز الى العلاقة التواصلية المباشرة ، التي توفرها هذه النصوص المسرحية القصيرة ، مع القارئ ، بعيدا عن التمرحلات التي يمر بها النص عند عرضه على خشبة المسرح . فقراءة النص المسرحي مباشرة ، والتفاعل مع صورته اللغوية المكتوبة ، تبعد عنه التشويش ، الذي قد يعتوره ، فيما لو كان النص معروضا على خشبة المسرح ، لأنه حينئذ يمر بمرحلة قراءة وتفسير وتأويل من قبل المخرج ، ثم من قبل الممثل ، فضلا عن تدخل عناصر العرض الاخرى ، ما يحيل الى تحوّل النص من صورته الاولية ، الى مراحل اكثر بعدا لخضوعها الى قراءات اخرى .

     تمثلت حذاقة المؤلف ، في ان يمنح نصوصه ، مزيجا من الافعال الكلامية ، التي تفضي الى سلوك انجازي ، يمر من خلال سلسلة مختصرة جدا من الاحداث الدرامية . فنص مسرحية ( اتصال ) لا تزيد كلماته عن مائة وخمسين كلمة ، ولشخصية واحدة ، وفي اطار زماني ومكاني واحد ، لكن المؤلف اعطى في هذه الفسحة المبتسرة من النص المسرحي ، مجموعة من الافكار والثيم الفلسفية ، التي تجعل النص يقع في خانة ما يسمى النص المفتوح ، الذي يحتمل المزيد من اجتهاد القارئ ، ليملأ البياضات النصية المبثوثة قصدا بين السطور .

        “هو : احدهم يتصل . يحاول ان يتحدث معي .. اهتَم لأمري .. اشعر انني افضل ..لقد كانت الامور سيئة قبل الاتصال ..ربما اذا ضغطت الزناد سيحزن لأجلي ..لا ينبغي ان افعل ذلك من اجله ..لا ينبغي ان افعل ..”

  في الحوار اعلاه ، يتضح العل الانجازي ، المترتب على الفعل الكلامي المنطوق من قبل الشخص ( هو) الذي كانت رغبته في الانتحار قائمة ، حتى اتاه الاتصال ، ليغير قراره . وهنا لابد من الاشارة الى تدخل صوت المؤلف المضمر في النص ، قد اوضح لنا انه لا ينفك يراقب شخصياته المسرحية ، ويقترح الحلول التي يراها تتوافق مع سياقات الحدث الدرامي . لذلك لم يدفع الشخص للاجابة على الاتصال ، وانما افترض ان المتصل يهتم لأمره ..

    لقد سايرت اللغة الدرامية في بناء النص ، صيرورة الحركة الدرامية في صورتها التي تقربها من المثالية ، بعيدا عن مفترضات الوعي الجمعي للقارئ ، كونها تمثل مسارا للتحليق بعوالم الفن المسرحي . الذي يتيح ضمنا للمؤلف ان يرتقي الى مفاهيم اللغة الترانسندنتالية المتوالية وفق لحظات زمكانية متعاقبة .

    فالنصوص في هذه المجموعات ، مفعمة بالمعاني والدلالات الرمزية ، التي تمنح القارئ فرصة  لاستفزاز مكنوناته الذاتية ، وعمق قدرته التحليلية ، لتأسيس بنية تأويلية ، تضيف الكثير من المعاني المستنبطة من النص ذاته ، ولكنها جاءت وفق تداولية مضمرة ، عبرت عنها مفردات النص بطريقة ايحائية . ولنقترب اكثر من هذا المفهوم لنتابع الحوار الاتي من نص مسرحية بقايا في قبو :

        “حفيد : ( في فرح ) جدي ..وقع اقدامهم .. تبتعد .. تبتعد ..تبتعد .. يا جدي

          جد : ( في فرح ) سيغادرون .. سيغادرون .. سيغادرون .. يا حفيدي

          حفيد : جدي .. هل سأجد .. عظام قطتي .. لادفنها .. يا جدي ؟

         جد : ترى .. هل سنجد .. منزلنا .. يا حفيدي؟ “

  ان بنية الحوار المتقدم اعلاه ، قد جاءت وفق ما يمكن الاطلاق عليه بالسهل الممتنع ، الذي يغري القارئ لأول وهلة بالبساطة ، والسلاسة ، والابتعاد عن التراكيب اللغوية المعقدة ، في حين انه ، وبعد التمعن جيدا ، نجده مفعما بحمولات فكرية ، وفلسفية ، وإحالات دلالية الى ذاكرة القارئ الحصيف ، لكي يستنبط حمولات الحوار الدرامية .

      يحشد المؤلف ، في ثنايا نصوصه المسرحية القصيرة ، احداثا درامية ، عبر ملفوظات لغوية مباشرة ، واخرى غير مباشرة ، تاركا تحقيق افعالها الانجازية ، الى قدرة المتلقي / القارئ الذهنية ، ومرجعياته الثقافية ، للارتقاء بما يمكن تسميته بالتفكير التداولي المعرفي ، الذي يتم من خلاله تنامي الفعل الدرامي ، عبر الشخصيات المسرحية ، مذوتاً من المؤلف ، او تواصلا مع ذوات القراء ، بما يحيل الى تشاركية الفعل الانجازي ، لمضمون مضمر في معطيات الجملة الحوارية .

  ولعل القارئ سيلمس ، قلة الارشادات المسرحية ، وهي ملاحظة تحسب للمؤلف ، لان الارشادات غالبا ما تدفع القارئ الى الاحساس بفقدان الاثر العاطفي المباشر ، المتولد عن القراءة ، كونها تشبه ما يمكن ان يكتبه الرسام عن لوحته ، لا عن طريق مشاهدة اللوحة الفنية مباشرة ، وتكوين الانطباع الخاص عنها .

    ان مجموع المسرحيات القصيرة ، تنبؤ عن ميلاد نص مسرحي ، ذو حمولات فكرية وفلسفية ، بأسلوبية مميزة ، تدفع القارئ الى استنفار مرجعياته المعرفية للحاق بحمولات النص ، وتفسيرها وفهمها ، وتلك متعة توفرها تلك النصوص ، قد لا توفرها له نصوص اخرى .

                                                                         الدكتور

                                                               علي عبدالحسين الحمداني

                                                          عميد كلية الفنون الجميلة في البصرة

                                                                          2018