المقدس والمدنس ، في ما كان وما دار – جاسم الصافي

أن تاريخ المشكلة هو مشكلة التاريخ

                                                    هيغل

لقد ضل الفكر العربي يجري بأموره الحياتية على نحو طقسي ، اذ يعيد إنتاج الماضي كنص حالم ، يهرب به الى الوراء ، بينما يطارده الحاضر الكبير ، والملغم بالتهديدات لراهنه التاريخي ، والذي يستفزه باستمرار ، ويطالبه بالتخلي عن كل شيء قريبا أو بعيد ، ليبقى هكذا أعمى ألذات ، يدور في دوامة المستقبل المتسارع ، والذي يسبقه دوما وأبدا ، لهذا فهو يخسر حاضره وماضيه  ، ويستبشر مستقبله ، بهذه النتيجة بعد أن تخلى عن عقلانية الزمان التاريخي ، وبقي يعيش على هامش الحضارات ، كجسد وعقلا مستهلك  .

ان الكتابات عن العقل العربي أو الإسلامي من محمد عبد وبرهان غليون والجابري وأركون  بقيت متماسكة ، الى أن تجزأت هذه الكتابات لتعتليها التفكيكية ، وما بعد الحداثوية ، ولكن بمنهج شكلي لا يتوافق ومكتسباتنا الثقافية أو العقلية ،  لنخوض عن الآخرين صراعا أعمق من إمكانياتنا ، فيقودنا الى ضياع مزدوج ، بين العقل السياسي والعقل الديني ، بين سلطة الزمان وسلطة المكان ، بين رؤية رجل الايدولوجيا ورؤية رجل الفقه .      من هنا كان اشتغال الكاتب عمار نعمة جابر ضمن أدوات نصه المسرحي ( ما كان وما دار ….) ، والذي من الصعوبة أن يرتقي كاتب بنص أدبي ، يحاكي

به العقل أكثر من الوجدان –  والخطورة دوما تأتي من هنا ! –  أي من ما هو مقدس ، حين يكون بحث أو دراسة أو عمل أدبي ( رواية ـ مسرح أو أي جنس ادبي آخر ) في زمن أصبح فيه الفقيه سياسي ، والسياسي فقيه يتفنن في تضخيم كل ما هو عاطفي ومرعب تجاه المقدس أو المتخيل الديني ، لان القاعدة المنفعية تنص على أن من ينتهك التابلو يغدو هو نفسه جزأ من ذلك التابلو ، وهذه منافسه أزلية مابين الفقيه والزعيم

أن عمار نعمة جابر حاول أن يجد في أفق المسرح قطب ثالث يتوسط  ما بين السماء والأرض ، وقد افلح في الاقتراب من هذه النقطة الخطرة ، وهي التابلو الذي كان رحى الإشكالية الحديث ، بعد أن أماتت الإيديولوجية وانتزاع الأيمان ، ليركن على انه مجرد هاجس بدائي حان للإنسان أن يتخلى أو يتخلص منه ، لذا اختار الكاتب مناخا كلاسيكيا أو صورة كوزمولوجية ، بما فيها من معتقدات للمجتمعات التقليدية ، ليكون بهذا موضوع نصي يستعيد به طفولة العقل البشري تجاه المقدس ، ويستعير منه المحرم بشفافية أدبية ، والذي يعادله حديث الأيديولوجي أو الحزبي أو المذهبية .

فيستهل الكاتب عمله في تعريف المكان ، وهو مملكة ذات تسع وتسعين معبدا ، ويظهر من الرقم  الذي يتكرر على لسان شخوص المسرحية  (القصدية) …

خادم ثان  : لا تتحدث عن أهل مملكة المعابد التسعة والتسعين بهذا الشكل ..

التي عناها الكاتب وهي قريبه لما هو مأثور لدينا من مقدس هذا الرقم بدليل انه يكرر احدا مشتق هذا الرقم في قول

الكاهن .. بوركت سواعدكم السمراء ، التي تبني صروح المجد والمتمثلة بتشييد ثلاثة وثلاثين نصبا جديدا ، للإله المقدس ذي العينين الواسعتين ….

ثم يصف الكاتب هذه المملكة أنها تطل على نهر عظيم نهر خصب ونماء ، وحضارات الأنهر معروفة ، إذ كان الكاتب على طول العمل وهو يستخدم المناخ الكلاسيكي والصورة كوزمولوجية حيث بذكر

وزير الأمن : لقد مات قبل دقائق بعض المسؤولين … ومات معهم جموع كبيرة من الناس .. وهم الآن يتساقطون في الشوارع والأزقة والمدن .. على طول النهر ..  إنهم جياع .. 

أن الكاتب قد عنى من مفردة النهر منحاها الأسطوري حتما ..

لقد حاول الكاتب تقريب الواقع المحلي في وصف أهل تلك المملكة  ، كونهم بسطاء ، ويعتنقون دين واحد ، ويعبدون الها واحد ، لكنهم يختلفون في رؤيته ، وهذا يحصر ذهنية القارئ في حاضر اليوم (الصراع الطائفي والسياسي) ، أي انه نوع من الاسقاطية شبه المباشرة ، والتي تأتي ضرورتها مع التخيل القريب ، فيكون بالنتيجة خيال سحري للواقع

في بداية العمل يقول الخادم وهو ينش على الطيور ( اغربي ايتها الطيور من هنا … طيور غبية ) ولأهمية هذه الطيور التي ستكون موضع اهتمام النص المسرحي سيشكل تساؤلا عن ما هيتها وهيئة تلك الطيور ، حمائم ، غربان ، نسور ، أي نوع من الطيور هذه ؟ التي تقبح في الجانب السياسي ( القصر ) وتطرد من الجانب الزماني ، ثم تقدس في الجانب الديني ( المعبد ) الجانب المكاني ، لتكون بعدها حطب التصعيد في صراع النص ، حين تثار قضية تحريم أو حلية أكلها……

الشاب    : ( ينادي ) اقرأوا فتوى تحريم طيور المستنقعات .. وطيور المعابد المقدسة .. ( يعطي منشوراً لأحدهم )  ) اقرأوا فتوى تحريم طيور    المستنقعات .. وطيور المعابد المقدسة ..

الشاب 2  : أيها الناس .. أيها الناس .. اسمعوا وعوا .. لقد جاء أمر الإله … فلقد جاء كاهننا الأعلى المفدى ، وحي من السماء صباح هذا اليوم .. يؤكد أن طيور المستنقعات ، وطيور المعابد حلال أكلها .. وليس محرما أبدا

ثم يزيد من حدة الصراع فعل تلك الطيور ، الفعل الشائن ! وهو سخرية من العقل البشري الطفولي  …

المرأة  : صباح هذا اليوم حلقت أسراب من هذه الطيور ، واتجهت باتجاه معبد ذو الحاجبين المعقودين ، ومعبد ذو الحنك الدقيق ، ومعبد ذو الأنف المدبب ..

رجل 1 : وماذا حصل ؟ ..  تكلمي ؟

المرأة  : قامت هذه الطيور ..أأ.. يا الهي .. كيف أتكلم بمثل هذا الحديث ..

رجل 2 : سيدتي أرجوك تكلمي .. فقط  اذكري ما لذي فعلته هذه الطيور .. 

المرأة  : لقد ..أأ .. لقد ذرقت ..

أن الطيور التي دنست تلك الآلهة ، كشفت زيف قداسة هذه المعابد ، كما عرفت أن البشر ليسوا أحرار حين احتجزوا عقولهم في كل ما هو مقدس ، دون أن يكون بمقدورهم الحبو الى أكثر من ذلك الفضاء المتوارث ، والذي يعتبر القوة الفاعلة دوما في تاريخ البشرية ، تلك القوة المسكونة في داخلنا بالخوف من كل ما هو مقدس ، وقد يتبادر هنا سؤال .. من هو الجاني ؟ ومن المجني علية الطيور التي ذرقت على كل ما هو مدنس وجوه الإلة ووجه الملك ووزير أمنه ام الإنسان الذي خلق قداسة صراع أزلي في تكفير وقتل الأخر ؟

لقد عمل الكاتب في صراع الحدث ، على تعظيم علاقة المقدس والمدنس ، اللذان لا يجتمعان بل ينفي احدهم الأخر ، ولكن في العمل نجد أن الضرورة تجعل المدنس يخدم المقدس ، إذ حين تحرم أمرا ما إنما أنت تجعل من عكسه مقدس ، وهو السبب لتعمد التعصب الديني الذي يكون أكثر فسحه حين يظهر في أفق التجربة الإنسانية الكلية ، تلك هي ألازمة التي يبتكرها عمار نعمة جابر من أبطاله ..

المتظاهرين  : تسقط مملكة أكلي طيور المعابد المقدسة ..

                  تسقط مملكة أكلي طيور المعابد المقدسة.. يسقط عبدة الشيطان ..

                  يسقط الملك .. تسقط وزارة الأمن .. تسقط المملكة .. تسقط المملكة ..

( يدخل رجال الأمن .. يركضون بالهراوات خلف المتظاهرين .. يمسكون بعضهم .. ويهرب الآخرون )

نلحظ الى أي مدى يصل التصعيد الوجداني للمقدس ، الى الحد الذي يسقط النظام ، ويعري المقدس المطلق نفسه ،  أنه التابلو الذي ينطوي على دلالتين متعارضتين .. الأول دلالة المقدس الخطر ، والثانية دلالة المدنس المقلق ، ويعني بذلك التعبير عن كل ما يرتبط بالخوف المقدس ، أو ما يقال عنه بالتابلو الدائم المتعلق بما يصدر عن الكاهن والزعيم ، وهي صفة المقدس الذي يتجاوز طبيعة الأشياء العادية ، الى أن يصبح بفعل التراكم المتوارث ، قوة تقليدية وعرف يزيد من فاعلية الأسطورية والخرافية في الذاكرة الجمعية للبشر ، والتي تفرض علينا نحن جيل اليوم واجب إكراهي

نحو الأمس المألوف  أو المعتاد عند أجيال قد سبقتنا ، ليكون بعدها سنن قانونية يشرعها ( الزعيم السياسي ) لا يمكن العبور بها إلا الى ما هو ( محرم دينيا أو سياسيا ) لهذا يقول فلهام فونت وهو فيلسوف وعالم نفس الماني  ” أن فكرة الحرام ، تشمل جميع العادات والأعراف التي تفصح عن الخوف المستشعر إزاء بعض الأشياء ، بالاتصال مع الأفعال المرتبطة بهذه الأشياء …… وهو يمثل الدستور غير المكتوب والأقدم عهدا للبشرية  “

أن نص ( ما كان وما دار … )  كان ملحمة تحاكي واقعنا المعاش ، بل يجاري الإحداث التي تجري اليوم ، وهي محاولة جريئة لتجاوز الوجدان التي تعتبر احد الركائز المهمة ، حيث يؤسس عليها العمل الأدبي ، خصوصا في محاكات الفكر وبدلالات كوزمولوجية ، ووظائف طقوسية معقدة ، معقدة لا لا يمكن جمعها بسهولة مثلما في عمل ( ما كان وما دار بين من ملك .. وما طار..الحائز على جائزة دبي الثقافية لعام  2011 ) .

مسرحية ( ما كان وما دار بين من ملك .. وما طار) من ضمن مجموعة مسرحية جديدة للكاتب الموسومة بـ( شاورما ) صدرت عن مطبعة تموز في دمشق / الطبعة الأولى / 2012